سورة الكهف - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


قوله تعالى: {فلا تسألني} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {فلا تسألْني} ساكنة اللام. وقرأ نافع: {فلا تسأَلَنِّي} مفتوحة اللام مشددة النون. وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: {فلا تسألَنِّ عن شيء} بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة. والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله {حتى أحدث لك منه ذِكْراً} أي: حتى أكون أنا الذي أُبيِّنه لك، لأن عِلْمه قد غاب عنك.
قوله تعالى: {خرقها} أي: شقَّها. قال المفسرون: قلع منها لوحاً، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه ما فعل بقوله: {أخرقتَها لتُغرق أهلَها} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {لتُغرِق} بالتاء {أهلَها} بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي: {ليَغرَق} بالياء {أهلُها} برفع اللام. {لقد جئتَ شيئاً إِمراً} وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: منكراً، قاله مجاهد. وقال الزجاج: عظيماً من المنكر.
والثاني: عجباً، قاله قتادة، وابن قتيبة.
والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: {لا تؤاخذني بما نسيتُ} في هذا النسيان ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه على حقيقته، وأنه نسي، روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الأولى كانت نسياناً من موسى». والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أُبيّ بن كعب، وابن عباس.
والثالث: أنه بمعنى التَّرك، فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {ولا تُرهقني} قال الفراء: لا تُعجلني. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تُغْشِني. قال أبو زيد: يقال: أرهقتُه عسراً: إِذا كلفتَه ذلك. قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليُسْرِ، لا بالعُسْرِ. قوله تعالى: {فانطلقَا} يعني: موسى والخضر. قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما، لأن الإِخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تَبَعٌ لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع.
قوله تعالى: {حتى إِذا لقيا غلاماً} اختلفوا في هذا الغلام هل كان بالغاً، أم لا؟ على قولين.
أحدهما: أنه لم يكن بالغاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون.
والثاني: أنه كان شابّاً قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضاً، واحتج بأن غير البالغ لم يَجْرِ عليه قلم، فلم يستحق القتل. وقد يُسمَّى الرجلُ غلاماً، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
شَفَاها من الدَّاءِ العُضَالِ الذي بها *** غُلامٌ إِذا هزّ القناةَ سقاها
وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أُبَيٍّ.
والثاني: كسر عنقه، قاله ابن عباس.
والثالث: أضجعة وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: {أقتلت نفساً زاكية} قرأ الكوفيون، وابن عامر: {زكيَّة} بغير ألف، والياء مشددة.
وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية، والقَسيّة.
وللمفسرين فيها ستة أقوال.
أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، وبه قال الضحاك.
والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: القويمة في تركيبها.
والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة.
والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها، قاله الزجاج.
وقد فَرَّق بعضهم بين الزاكية، والزكيَّة، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قطُّ، والزكية: التي أذنبت ثم تابت. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدِّين.
قوله تعالى: {بغير نفس} أي: بغير قتل نفس {لقد جئت شيئاً نكراً} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {نكْراً} خفيفة في كل القرآن، إِلا قوله: {إِلى شيءٍ نُكُر} [القمر: 6]، وخفف ابن كثير أيضاً {إِلى شيء نُكْر}. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {نُكُراً} و{إِلى شيء نُكْر}. مثقل. والمخفف إِنما هو من المثقل، كالعُنْق، والعُنُق، والنُكْر، والنُكُر. قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئاً نكراً. ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء، أفضى الفعل فنصب نكراً، و{نكراً} أقل منكراً من قوله: {إِمراً} لأن تغريق مَنْ في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة.
قوله تعالى: {قال ألم أقل لك}.
إِن قيل: لم ذكر {لك} هاهنا، واختزله من الموضع الذي قبله؟
فالجواب: أن إِثباته للتوكيد، واختزاله لوضوح المعنى، وكلاهما معروف عند الفصحاء. تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله. وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:
قد كنتُ حَذَّرْتُكَ آلَ المصْطَلِقْ *** وقلتُ يا هَذا أَطِعْنِي وَانْطَلِقْ
فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه. وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقَّره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني، واجهه بها.
قوله تعالى: {إِن سألتك عن شيء} أي: سؤال توبيخ وإِنكار {بعدها} أي: بعد هذه المسألة {فلا تصاحبني} وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إِلا أنهم شدَّدوا النون. قال الزجاج: ومعناه: إِن طلبتُ صحبتك فلا تُتَابعني على ذلك. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: {فلا تَصحبني} بفتح التاء من غير ألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إِلا أنهم شددوا النون. وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: {تُصْحِبْني} بضم التاء، وكسر الحاء، وسكون الصاد والباء. قال الزجاج: فيهما وجهان.
أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك. يقال: قد أصحب المهر: إِذا انقاد.
والثاني: لا تصحبني علماً من علمك.
{قد بلغت من لدني} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {من لدنِّي} مثقل. وقرأ نافع: {من لدُني} بضم الدال مع تخفيف النون. وروى أبو بكر عن عاصم: {من لَدْني} بفتح اللام مع تسكين الدال. وفي رواية أخرى عن عاصم: {لُدْني} بضم اللام وتسكين الدال. قال الزجاج: وأجودها تشديد النون، لأن أصل لدن الإِسكان، فاذا أضفتها إِلى نفسك زدت نوناً، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكِّن النون ثم تضيف إِلى نفسك، فتقول: من لدنِّي، كما تقول: عن زيد وعنِّي. فأما إِسكان دال {لَدْني} فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضُد: عَضْد، فيحذفون الضم. قال ابن عباس: يريد: إِنك قد أُعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبراً.
قوله تعالى: {فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية} فيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس.
والثاني: الأُبُلَّة، قاله ابن سيرين.
والثالث: باحروان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {استطعما أهلها} أي: سألاهم الضيافة {فأبَوْا أن يضيِّفوهما} روى المفضل عن عاصم: {يُضيفوهما} بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية. وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إِلا أنه فتح الياء الأولى. وقرأ الباقون: {يضيِّفوهما} بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها. قال أبو عبيدة: ومعنى يضيِّفوهما: ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضِفت أنا، وأضافني الذي يُنزلني. وقال الزجاج: يقال: ضِفتُ الرجل: إِذا نزلتَ عليه، وأضفته: إِذا أنزلته وَقَرَيْتَهُ. وقال ابن قتيبة: يقال: ضيفت الرجل: إِذا أنزلتَه منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضِفته: نزلت عليه. وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانوا أهل قرية لئاماً». قوله تعالى: {فوجدا فيها جداراً} أي: حائطاً. قال ابن فارس: وجمعه جُدُر، والجَدْر: أصل الحائط. ومنه حديث الزبير: «ثم دع الماء يرجع إِلى الجَدْر»، والجيدر: القصير.
قوله تعالى: {يريد أن ينقضَّ} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء: {ينقاض} بألف ممدودة، وضاد معجمة؛ وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: {ينقاص} بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكلُّه بلا تشديد. قال الزجاج: فمعنى: ينقضَّ: يسقط بسرعة، وينقاص، غير معجمة: ينشق طولاً، يقال: انقاصت سِنُّه: إِذا انشقَّت. قال ابن مقسم: انقاصت سِنُّه، وانقاضت بالصاد، والضاد على معنى واحد.
فإن قيل: كيف نسبت الإِرادة إِلى ما لا يعقل؟
فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيهاً بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإِرادة إِذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إِلى مالا يعقل تجوُّزاً، قال الله عز وجل: {ولما سكت عن موسى الغضبُ} [الأعراف: 154]، والغضب لا يسكت، وإِنما يسكت صاحبه، وقال:
{فإذا عزم الأمر} [محمد: 21]، وأنشدوا من ذلك:
إِنَّ دهْراً يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ *** لَزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحْسانِ
وقال آخر:
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ *** وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عقيلِ
وقال آخر:
ضحكوا والدهرُ عنهم سَاكتٌ *** ثم أبكاهم دماً لمَّا نَطَقْ
وقال آخر:
يشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى *** صَبْراً جَمِيلاً فَكِلانا مُبْتَلَى
وهذا كثير في أشعارهم.
قوله تعالى: {فأقامه} أي: سوّاه، لأنه وجده مائلاً.
وفي كيفية ما فعل قولان. أحدهما: أنه دفعه بيده فقام. والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: {لو شئتَ لَتَخِذْتَ عليه أجراً} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لَتَخِذْتَ} بكسرالخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {لاتَّخَذْتَ} وكلُّهم أدغموا، إِلا حفصاً عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير. قال الزجاج: يقال: تَخِذ يَتْخَذُ في معنى: اتَّخَذَ يتَّخِذُ. وإنما قال له هذا، لأنهم لم يضيِّفوهما.
قوله تعالى: {قال} يعني: الخضر {هذا} يعني: الإِنكار عَلَيَّ {فراق بيني وبينك} أي: هو المفرِّق بيننا. قال الزجاج: المعنى: هذا فراقُ بينِنا، أي: فراق اتصالنا، وكرر بين توكيداً، ومثله في الكلام: أخزى اللهُ الكاذب مني ومنك. وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: {هذا فِراقٌ} بالتنوين {بيني وبينَك} بنصب النون. قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام، لربِّه، وكان قوله في الجدار، لنفسه، لطلب شيء من الدنيا.


قوله تعالى: {فكانت لمساكين} في المراد بمسكنتهم قولان:
أحدهما: أنهم كانوا ضعفاءَ في أكسابهم.
والثاني: في أبدانهم. وقال كعب: كانت لعشرة إِخوة، خمسةٍ زمْنى، وخمسةٍ يعملون في البحر.
قوله تعالى: {فأردتُ أن أعيبَها} أي: أجعلها ذات عيب، يعني بخرقها، {وكان وراءهم} فيه قولان:
أحدهما: أمامهم، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن مسعود: {وكان أمامَهم مَلِك}.
والثاني: خلفهم؛ قال الزجاج: وهو أجود الوجهين. فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه، ولم يعلموا بخبره، فأعلم الله تعالى الخضرَ خَبَرَه. قوله تعالى {يأخذ كل سفينة غصباً} أي: كل سفينة صالحة. وفي قراءة أُبيِّ بن كعب: {كلَّ سفينة صحيحة}. قال الخضر: إِنما خرقتها، لأن الملك إِذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلُها فانتفعوا بها.
قوله تعالى: {وأما الغلام} روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وأما الغلام فكان كافراً}. وروى أُبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» قال الربيع بن أنس: كان الغلام على الطريق لا يمرُّ به أحدٌ إِلا قتلَه أو غصبه، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه. وقال ابن السائب: كان الغلام لصّاً، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل.
قوله تعالى: {فخشينا} في القائل لهذا قولان:
أحدهما: الله عز وجل. ثم في معنى الخشية المضافة إِليه قولان. أحدهما: أنها بمعنى: العلم. قال الفراء: معناه: فعلمنا. وقال ابن عقيل: المعنى: فعلنا فعل الخاشي.
والثاني: الكراهة، قاله الأخفش، والزجاج.
والثاني: أنه الخضر، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم، قاله ابن الأنباري. وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله: {فأردنا أن يبدلهما ربهما}. قال الزجاج: المعنى: فأراد الله، لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى. ومعنى {يرهقهما}: يحملهما على الرَّهَق، وهو الجهل. قال أبو عبيدة: {يُرْهِقَهُما}: يغشِيَهما. قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملَهما حُبُّه على أن يدخلا في دينه. وقال الزجاج: فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فرضي امروءٌ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره، خير له من قضائه فيما يحب.
قوله تعالى: {فأردنا أن يبدلَهما ربهما} قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: {أن يُبْدِلَهُما} بالتخفيف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بالتشديد.
قوله تعالى: {خيراً منه زكاةً} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: ديناً، قاله ابن عباس.
والثاني: عملاً، قاله مقاتل.
والثالث: صلاحاً، قاله الفراء.
قوله تعالى: {وأقربَ رُحْماً} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {رُحْماً} ساكنة الحاء، وقرأ ابن عامر: {رُحُماً} مثقلة.
وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، وأبو رجاء: {رَحِماً} بفتح الراء، وكسر الحاء.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أوصل للرحم وأبَرّ للوالدين، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: أقرب عطفاً، وأمسّ بالقرابة. ومعنى الرُّحْم والرُّحُم في اللغة: العطف والرحمة، قال الشاعر:
وكيف بظلم جَاريةٍ *** ومنها اللِّينُ والرُّحُم
والثاني: أقرب أن يُرحَما به، قاله الفراء. وفيما بُدِّلا به قولان. أحدهما: جارية، قاله الأكثرون. وروى عطاء عن ابن عباس، قال: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيّاً.
والثاني: غلام مسلم، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} يعني: القريةَ المذكورة في قوله: {أتيا أهل قرية}، قال مقاتل: واسمهما: أصرم، وصريم.
قوله تعالى: {وكان تحته كنزٌ لهما} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه كان ذهباً وفضة، رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن، وعكرمة، وقتادة: كان مالاً.
والثاني: أنه كان لوحاً من ذهب، فيه مكتوب: عجباً لمن أيقن بالقدر ثم هو يَنْصَب، عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجباً لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجباً لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل، عجباً لمن رأى الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إِليها، أنا الله الذي لا إِله إِلا أنا، محمد عبدي ورسولي، وفي الشِّق الآخر: أنا الله لا إِله إِلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقتُ الخير والشَّر، فطوبى لمن خلقتُه للخير وأجريتُه على يديه، والويل لمن خلقتُه للشر وأجريتُه على يديه، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: فسُمِّي كنزاً من جهة الذَّهب، وجعل اسمه هو المغلَّب.
والثالث: كنز علم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: صُحُف فيها عِلْم، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: فيكون المعنى على هذا القول: كان تحته مثل الكنز، لأنه يُتعجَّل من نفعه أفضل مما يُنال من الأموال. قال الزجاج: والمعروف في اللغة: أن الكنز إِذا أُفرد، فمعناه: المال المدفون المدَّخَر، فاذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز هاهنا بالمال أشبه، وجائز أن يكون الكنز كان مالاً، مكتوب فيه علم، على ما روي، فهو مال وعِلْم عظيم.
قوله تعالى: {وكان أبوهما صالحاً} قال ابن عباس: حُفِظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحاً. وقال جعفر بن محمد عليه السلام: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. وقال مقاتل: كان أبوهما ذا أمانة.
قوله تعالى: {فأراد ربُّك} قال ابن الأنباري: لما كان قوله: {فأردتُ} و{وأردنا} كل واحد منهما يصلح أن يكون خبراً عن الله عز وجل، وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإِرادة عليه، ويزيلها عن غيره، ويكشف البُغية من اللفظتين الأولَيين. وإِنما قال: {فأردتُ} {فأردنا} {فأراد ربُّك}، لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتِّفاقه مع تساوي المعاني، لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعاً في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبَّرني بما نال. فأما {الأَشُدُّ} فقد سبق ذكره في مواضع [الأنعام: 152، ويوسف: 22، والإسراء: 34] ولو أن الخضر لم يُقِم الحائط لنُقض وأُخِذ ذلك الكنز قبل بلوغهما.
قوله تعالى: {رحمةً من ربك} أي: رحمهما الله بذلك. {وما فعلتُه عن أمري} قال قتادة: كان عبداً مأموراً.
فأما قوله: {تَسْطِع} فإن {استطاع} و{اسطاع} بمعنى واحد.


قوله تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين} قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85].
واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال.
أحدها: عبد الله، قاله علي عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله بن الضحاك.
والثاني: الاسكندر، قاله وهب.
والثالث: عيِّاش، قاله محمد بن علي بن الحسين.
والرابع: الصعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة.
وفي علَّة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال.
أحدها: أنه دعا قومه إِلى الله تعالى، فضربوه على قرنه فهلك، فغبر زماناً، ثم بعثه الله، فدعاهم إِلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك، فذانك قرناه، قاله علي عليه السلام.
والثاني: أنه سمي بذي القرنين، لأنه سار إِلى مغرب الشمس وإِلى مطلعها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.
والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إِلى الأرض وأخذ بقرني الشمس، فقصَّ ذلك على قومه، فسمِّي بذي القرنين.
والخامس: لأنه مَلَك الروم وفارس.
والسادس: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبِّه.
والسابع: لأنه كانت له غديرتان من شعر، قاله الحسن. قال ابن الأنباري: والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر غديرتين، وجميرتين، وقرنين؛ قال: ومن قال: سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم، قال: لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما: قرنان.
والثامن: لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف.
والتاسع: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس، وهو حيّ.
والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إِسحاق الثعلبي.
واختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين.
أحدهما: أنه كان نبيّاً، قاله عبد الله بن عمرو، والضحاك بن مزاحم.
والثاني: أنه كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبيّاً، ولا مَلكاً، قاله علي عليه السلام. وقال وهب: كان ملكاً، ولم يوح إِليه.
وفي زمان كونه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه من القرون الأُوَل من ولد يافث بن نوح، قاله علي عليه السلام.
والثاني: أنه كان بعد ثمود، قاله الحسن. ويقال: كان عمره ألفاً وستمائة سنة.
والثالث: أنه كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، قاله وهب.
قوله تعالى: {سأتلوا عليكم منه ذِكْراً} أي: خبراً يتضمن ذِكْره. {إِنا مكَّنَّا له في الأرض} أي: سهَّلْنا عليه السَّير فيها. قال علي عليه السلام: إِنه أطاع الله، فسخَّر له السحاب فحمله عليه، ومَدَّ له في الأسباب، وبسط له النُّور، فكان الليل والنهار عليه سواء. وقال مجاهد: مَلَك الأرضَ أربعةٌ: مؤمنان، وكافران؛ فالمؤمنان: سليمان بن دواد، وذو القرنين؛ والكافران: النمرود، وبختنصر.
قوله تعالى: {وآتيناه من كل شيء سبباً} قال ابن عباس: عِلْماً يتسبب به إِلى ما يريد. وقيل: هو العِلْم بالطُّرق والمسالك.
قوله تعالى: {فأتبع سبباً} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {فاتَّبع سبباً} {ثم اتَّبع سبباً} {ثم اتَّبع سبباً} مشددات التاء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {فأتبع سبباً} {ثم أتبع سبباً} {ثم أتبع سبباً} مقطوعات. قال ابن الأنباري: من قرأ {فاتَّبع سبباً} فمعناه: قفا الأثر، ومن قرأ {فأتبع} فمعناه: لحق؛ يقال: اتَّبَعَني فلان، أي: تَبِعَني، كما يقال: أَلْحَقَني فلان، بمعنى لَحِقَني. وقال أبو علي: {أتبع} تقديره: أتبع سبباً سبباً، فأتبع ما هو عليه سبباً، والسبب: الطريق، والمعنى: تبع طريقاً يؤدِّيه إِلى مَغْرِب الشمس. وكان إِذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشاً فسار بهم إِلى غيرهم.
قوله تعالى: {وجدها تغرب في عين حمئة} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن وعاصم: {حمئة}، وهي قراءة ابن عباس. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {حامية}، وهي قراءة عمرو، وعلي، وابن مسعود، والزبير، ومعاوية، وأبي عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، وأبي جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأعمش، كلُّهم لم يهمز. قال الزجاج: فمن قرأ: {حمئة} أراد في عَيْنٍ ذاتِ حَمْأَة. يقال: حَمَأْتُ البئر: إِذا أخرجتَ حَمْأتَها؛ وأَحْمَأْتُها: إِذا ألقيتَ فيها الحَمْأَة. وحمئت فهي حمئة: إِذا صارت فيها الحَمْأَة. ومن قرأ: {حامية} بغير همز، أراد: حارّة. وقد تكون حارَّة ذاتَ حَمْأَة. وروى قتادة عن الحسن، قال: وجدها تَغْرُب في ماءٍ يغلي كغليان القدور {ووجد عندها قَوْماً} لباسهم جلود السِّباع، وليس لهم طعام إِلا ما أحرقت الشمس من الدوابّ إِذا غربت نحوها، وما لفظت العين من الحيتان إِذا وقعت فيها الشمس. وقال ابن السائب: وجد عندها قوماً مؤمنين وكافرين، يعني عند العين. وربما توهَّم متوهِّم أن هذه الشمس على عِظَم قدْرها تغوص بذاتها في عين ماءٍ، وليس كذلك. فإنها أكبر من الدنيا مراراً، فكيف تَسَعُها عين ماء؟!. وقيل: إِن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مَرَّة، وقيل: بقدر الدنيا مائة وعشرين مَرَّة، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة. وإِنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طَرَفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان فوجد عيناً حَمِئة ليس بعدها أحد.
قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين} فمن قال: إِنه نبيّ، قال: هذا القول وحي؛ ومن قال: ليس بنبي، قال: هذا إِلهام.
قوله تعالى: {إِما أن تُعَذِّب} قال المفسرون: إِما أن تقتلَهم إِن أبَوْا ما تدعوهم إِليه، وإِما أن تأسرهم، فتبصِّرهم الرشد. {قال أمّا مَنْ ظَلَم} أي: أشرك {فسوف نُعَذِّبُه} بالقتل إِذا لم يرجع عن الشرك. وقال الحسن: كان يطبخهم في القدور {ثم يُرَدُّ إِلى ربِّه} بعد العذاب {فيعذبه عذاباً نُكْراً} بالنار.
قوله تعالى: {فله جزاءً الحسنى} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {جزاءُ الحسنى} برفع مضاف. قال الفراء: {الحسنى}: الجنة، وأضيف الجزاءُ إِليها، وهي الجزاء، كقوله: {إِنه لَحَقُّ اليقين} [الحاقة: 51] و{دينُ القيِّمة} [البيِّنة: 5] و{ولدار الآخرة} [النحل: 30]. قال أبو علي الفارسي: المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى، لأن الإِيمان والعمل الصالح خِلال. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: {جزاءً} بالنصب والتنوين؛ قال الزجاج: وهو مصدر منصوب على الحال، المعنى: فله الحسنى مَجْزِيّاً بها جزاءًَ. وقال ابن الأنباري: وقد يكون الجزاء غير الحسنى إِذا تأوَّل الجزاء بأنه الثواب؛ والحسنى: الحسنة المكتسبة في الدنيا، فيكون المعنى: فله ثواب ما قدَّم من الحسنات.
قوله تعالى: {وسنقول له من أمرنا يُسْراً} أي: نقول له قولاً جميلاً.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12